الفكرالإسلامي
لايجوز
أن نعتبر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
مِنّةً عليه
بقلم :
الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف
بـ "حكيم الأمة" المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب :
أبو أسامة نور
لو قلتُم: إننا نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فينفعه صلى الله عليه وسلم ذلك. قلتُ: إن صلاتكم عليه صلى الله عليه وسلم لاتنفعه بمثل ما تنفعكم أنتم؛ فقد أَمَرَنَا الله عز وجل بذلك قائلاً: «يٰأَيُّهَا الَّذِيْنَ ءَامَنُو صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (الأحزاب/56).
لو
قلتم – مثلاً – لخادمك: هذه ألف روبية، قل لنا بشأنها: أن نمنحها ابناً من
أبنائنا. لما قلتُم له ذلك إلاّ إكراماً منكم له وتحبيباً منكم له إليكم؛ حيث إن
الابن لايحتاج في نيلها إلى الخادم، لأن الخادم مهما لم يقل لكم شيئًا بشأن
إعطائها إيَّاه، فإنه من المُقَرَّر منكم منحُها إيّاه، أمّا تكليفُكم إيّاه أن
يلتمس منكم أن تدفعوها إليه، فلم يكن ذلك منكم إلاّ إعمال حيلة لإكرامه.
وذلك
هو موقف الصلاة على رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ حيث قال تعالى: «صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» فالصلاة عليه صلى
الله عليه وسلم من قِبَلِه تعالى مُقَرَّرَة مهما
صَلَّينا عليه صلى الله عليه وسلم
أو لم نُصَلِّ؛ إذ قال تعالىَ من قبلُ: «إِنَّ اللهَ ومَلٰئِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» (الأحزاب/56) لكنه تعالى لإكرامه لَنا كَلَّفَنا أن
نُصَلِّي عليه، حتى نستحقَ نحن أيضاً رحمتَه تعالى. من له أن يَدِّعي أن رحمتَه
تعالى تتوجّه إليه صلى الله عليه وسلم
بالتماسه منه تعالى أن يُصَلِّي عليه صلى
الله عليه وسلم ويرحم تعالى عليه صلى
الله عليه وسلم. وإنما طرحتُ هذا التساؤل وأجبت عنه؛
لأنه ربما كان ليثور في قلب رجل جافّ الطبع.
إن
صنيعَ الله مع نبيـه صلى الله عليه وسلم
لايتوقّف على التماسنا نحن، ومن الدلائل عليه ما قاله العلماء من أن العبادات غير
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم،
قد تُقْبَل وقد تُرَدَّ، أما الصلاةُ عليه صلى
الله عليه وسلم، فإنها تُقْبَل لا مَحَالَة، ولا
تُرَدّ أبــدًا؛ فلـو كانت أعمالُنا وعبــاداتُنا لتُؤَثِّر في نــزول رحمة الله
تعالى عليه صلى الله عليه وسلم
لكانت صلاتنا عليه صلى الله عليه وسلم
مثلَ عبـاداتنا الأخرى قد تُقْبَل وقد تُرْفَض؛ فكونُها مقبولةً دائماً دليل أكيد
على أن التماسنا لادخل له في صلاة الله تعالى عليه صلى
الله عليه وسلم ورحمته تعالى به صلى
الله عليه وسلم . إنه تعالى يُصَلِّي عليه مهما صلينا
عليه صلى الله عليه وسلم
أو لم نُصَلِّ؛ فالصلاة عليه مقبولة دائمًا، ولا تُرَدُّ أبداً.
منفعة الصلاة عليه
صلى الله عليه وسلم لنا
فالله
تعالى مُصَلٍّ عليه صلى الله عليه وسلم
لامَحَالَة. أما أمره تعالى إيّانا بالصلاة عليه فهو إنما جاء؛ لأنه تعالى أراد أن
يكرمنا ويتفضّل علينا. على أن أعمالَنا وعباداتنا ليست لتُقْبِل عند الله تعالى،
وما لايُقْبَل من الأعمال فهو كالمعدوم أصلاً؛ فكانت صلاتنا عليه صلى
الله عليه وسلم أيضًا كالمعدوم، ولكن رحمة الله تعالى
تنزل عليه رغماً من ذلك؛ فلا يَظُنَّنَّ أحدٌ منا أن رحمة الله تعالى إنما تنزل
عليه صلى الله عليه وسلم
لأننا نصلي عليه. إن مثل ذلك مثل الشمس تُنَوِّرنا إذا واجهناها؛ ولكنها لاتحتاج
إلينا في استنارتها وإشعاعها. فاقوالُ العلماء هي الأخرى أكّدت أنّ النبي صلى
الله عليه وسلم غنيّ عن إفادتنا إيّاه.
ولكنه قد تثور هناك شبهةٌ أخرى، وهي أنه صلى الله عليه وسلم عَلَّمنَا الدينَ، فإذا عِمِلْنا به، أصابه صلى الله عليه وسلم الأجرُ على ذلك؛ فكيف يصيبه الأجرُ إذا لم نَعْمَلْ به –
الدين – ومعنى ذلك أن عَمَلَنا كان له دخل في ذلك – نيله صلى الله عليه وسلم الجزاءَ – والإجابة عن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم عندما قام بالتعليم بهذه النية – نية الأجر – فإنه أُجِرَ
لامَحَالَةَ. أما عَمَلُنا بتعليمه صلى الله عليه وسلم فلا يكون منه له صلى الله عليه وسلم إلاّ أنه يُسَرُّ به؛ لأنه يسُرُّ إذا يُخْبَرُ بأنّ
فلاناً من أمته صلى الله
عليه وسلم عَمِل بكذا. على
كل فإنه صلى الله
عليه وسلم لايحتاج إلى
الانتفاع بنا.
تزيين المساجد
والمجالس عمل لا طائلَ من ورائه
جرت
العادة اليوم بتزيين المساجد، وتُحَوَّل المجالس الدينية من التجميل والتزيين إلى
مسارح، ويقال: إنه بالنسبة إلى غير المسلمين لايجوز أن نتخلف عنهم(1).
يا
سادة! إن غير المسلمين الذين تَبْدُون مقابلَهم أنكم لاتستطيعون أن تسابقوهم، أين
لكم من الثروة ما هو عندهم؛ فلو أصرُّوا على موقفهم، لندمتم تجاههم في السباق؛
فليس لكم إلاّ أن تتبعوا النبيّ صلى
الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم،
وتتجنبوا السباق النفساني مع الكفار.
مهما
تظاهر اليهود بزيناتهم والنصارى بزيناتهم والهندوس بزيناتهم، فإن المسلم يخرج في
ثيابه المتمزقة الرثة ويزري والله بزيناتهم جميعاً، ألا! إنّ الله قد وهب لك أيها
المسلم الجمالَ الذي يغنيك عن كل نوع من التزين. أيها الجميل! إن الله أكرمك
بالجمال الذي تفتضح مقابلَه الشمس والقمر، لماذا تذر المسحوق على وجهك؟ إنه
يُغَطِّي جمالَك الطبيعيَّ، إنك لاتدرك ما لديك من الجمال، إن الجمال المجلوب
بالبودرة، يحجب جمالَك الأصلي. يقول المتنبئ:
حُسْنُ الْحِضَارَةِ مَجْلُوبٌ بِتَطْرِيَةٍ
وَفِي الْبَدَاوَةِ حُسْنٌ غَيْرُ مَجْلُوبِ
والواقع
أن المرأة البدوية إذا كانت حسناء، فإنها بما أنها تتمتع بالقوى وتتعود الجدَّ
والكدَّ، وتملك الصحةَ الموفورةَ والجسمَ القويَّ المفتولَ، تتبدى أجمل بدرجات
كثيرة من المرأة الحسناء الحضرية التي تزيد جمالَها بكثير من الحيل الصناعية.
ألا! إن المجلس الديني الإسلامي غنيٌّ عن كل
فضل بعد انتمائه إلى فضيلة الإسلام. إنك لو عقدتَ مجلساً إسلاميًّا واعتبرتَه
مجلساً محمديًّا، ورُحْتَ تُزَيِّنه، وتسابق في التزيين تزيينَ المجلس الإمبراطوري
في دهلي، أو مجالس أباطرة أوربّا أو مسارحها الكبيرة، وقلتَ في نفسك أنك تخلفتَ في
سباق التزيين عنها، لكنتَ قد حاكيتَ هؤلاء وكنتَ ذليلاً كالغراب مشى مشية الحجلة
فنسي مشيته وندم وذلّ.
المجلس
الإسلامي والحفلة الدينية ينبغي أن تكون بحيث تُعْرَف من بعيد أنها إسلاميّة،
وليست مسرحاً أو منصةً للرقص والغناء، ينبغي أن تكون ساذجة من الخارج؛ ولكنه إذا
دخلها المعنيّون وجدوها مصطبغة بصبغة الصحابة، ولم يجدوا حضورَها مُتَقَلِّدين
قلائدَ من الزهور كالنساء العاهرات، ولم يجدوهم مُرْتَدِين ملابسَ فاخرةً للغاية
يبدو من كلٍّ من سلوكهم زهوُ الأثرياء الذين لافضلَ لديهم سوى المال. والتجربة
تشهد أنه لايتكلف التزينَ إلاّ من يملك المالَ ولايملك الفضلَ، وإلاّ لكان قد
تظاهر بفضله لابماله، وبما أنه فقد الفضلَ، فتظاهر بالمال.
وقد
قال الشيخ الرومي (الشيخ جلال الدين الرومي 604-672هـ = 1207-1273م) في بعض أبياته
أن الأصلع إخفاءً للعيب في رأسه يهتم بالقلنسوة الجميلة. أما الرجل ذو الرأس الصحيح
والشعر الجميل فإنّه يودّ أن لايكون على رأسه قلنسوة حتى يطلع الناس على ما لديه
من المفرق الجميل والشعر اللافت ويقولوا:
ما أجملهما؟!.
إني
أؤكد أنه لو كان في القلب الإيمان والإخلاص، فإن صاحبه يكره الزينة الظاهرة،
والعاري من الحقيقة هو الذي يُعْنَىٰ بالزينة الكاذبة. فالمجالس الإسلامية
والحفلات الدينية ينبغي أن تكون بسيطة، لأنها تأبى الزينةَ الكاذبةَ؛ لأن الإسلام
طبيعته البساطة وعدم الصنّع.
وكذلك
الجمع بين كثير من الواعظين والخطباء في الحفلات يأتي نابعًا من عاطفة التظاهر
والتباهي، لأن القائمين عليها يرون أن الناس بعضهم يُعْجَبُون بخطيب وبعضهم
يُعْجَبُون بخطيب آخر، فالجمع بين الجميع هو الأفضل، حتى يحضر الحفلةَ أناسٌ من كل
هوى ويتحقق فيها البهاء والرونق. وإني أقول: إذا كنتم تعقدون الحفلةَ عن غرض صادق،
فلماذا تهتمّون بمراعاة طبائع الناس. إن أحدًا إذا راح يُوَزِّع الروبيات فإن
الفقراء يجتمعون بشكل عفويّ، ولا تكون هناك حاجة إلى توزيع نشرات بإعلان أن من
يحضر لتسلُّم الروبيات، فإنه سينال الحلوى أيضاً؛ لأن ذلك ربما يكون دليلاً على أن
الروبيات المُزْمَع توزيعُها مُزَوَّرَة. لو كانت البضائع سليمةً صحيحةً لتم
تصريفُها دونما دعوة إليها بألفاظ مُنمَقَّةَ وعبارات مُسَجَّعَة، وإلا احتاج
صاحبُها إلى استرعاء انتباه الزبائن بكلمات مُقَفَّاة وأساليب رائعة. يا سادة!
خَلِّصُوا بضائعكم من الشوائب يخف إليها الزبائن عفويًّا. وكذلك الحقّ الخالص
يُهْرُع إليه الناس عفويًّا؛ لأن فيه جاذبيةً وعليه مسحةً من الجمال. وكذلك يكون
هناك فرق بين ما يقول أهلُ الحق وبين ما يقول أهلُ الباطل من المُلَمِّعِين لأنهم
– الملمعين – يُلَوِّنون كلامَهم جدًّا ويزخرفونه، وفيه من القوة الظاهرة والروعة
اللافتة ما فيه، ولكنه يكون فارغاً إلاّ من التقفية والتشجيع(1).
حديث أهل الحق
أما
حديثُ أهل الحق فيأتي خافتاً في البداية، ولكنه ينتهي قويًّا مؤثراً تأثيراً
خاصًّا، كالمطر يبتدئ طللاً، وينزل خافتاً، ولكنه يؤثر في الأرض فيُحَوِّلُها
روضةً مُزْهِرَةً مُتَفَتِّحَةً، وكذلك حديثُ أهل الحق يتسلسل خافتاً ويؤثر في القلب
شيئاً فشيئًا. كما يقول الشيخ الروميّ: كن تراباً حتى تنتج أزهارًا متنوعة،
كالتراب في الربيع الذي تخضرّ فيه الحجارة.
أما
المُلَمِّعُون فإنهم لكي يكسبوا الناس ينشدون في بداية حديثهم كثيرًا من أبيات
الشيخ الرومي، وربما يستخدمون أحيانًا – كما حدث مؤخرًا – الطبول والأعواد
والمعازف ليحولوا مجالس الوعظ(1) مثيرة
ويختارون كلمات مرققة، مما يحدث بعضَ الحماس لدى المستمعين؛ ولكنه ما إن تنتهي
حفلة الوعظ، حتى يتلاشى كل شيء اسمه الانطباع والتأثر، وما يبقى منه ينعدم عاجلاً
خلال أيام. أما أهل الحق فإن تأثيرهم يظل قائمًا دائمًا، ولكن حديثهم يخلو من كل
من الزخرفة، فالفرق بين كلا النوعين من الأحاديث هو الفرق بين ملاعق مُذَهَّبة
لامعة وبين روبيات أصيلة علاها الصَدَأُ، حيث إنك وإن لم تُزِل الصدأ عن الروبيات،
فإنها يتم صرفها بكامل قيمتها، فالروبيات الأصيلة(2)؛
في غنى عن اللمعان والبياض، والملاعق المذهبة رغم لمعانها وحمرتها الرائعة وكونها
في الظاهر ألمع من الروبيات، لاتحمل قيمة، لأن لمعانها طارئ موقت يزول خلال أيام
معدودة.
من
هنا كانت حياة الرسول صلى
الله عليه وسلم بسيطة لاتصنّع فيها ولا فخامة ظاهرة؛
لأنّه صلى الله عليه وسلم
كان صادقاً، ورغم كونه قادرًا وقورًا للغاية كان بسيطا ساذجا جدًّا في التعامل.
* * *
(1)
أي أنهم يزينون مجالسهم الدينية،
فلا يجوز لنا أن نكون دونهم في تزيين مجالسنا الدينية (المترجم)
(1)
الإشارة بأهل الباطل إلى المبتدعين
الغالين في الهند (المترجم)
(1)
في هذه السطور إشارة إلى ما يصنعه
المبتدعون من الواعظين في شبه القارة الهندية (المترجم)
(2) لايعزبن عن البال أن الروبيات كانت على عهد المؤلف رحمه الله
فضيّة أو مكونة من الفضة وغيرها من المعادن؛ ولم تكن ورقيّة.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ
= أبريل - مايو 2012م ، العدد : 5 - 6 ، السنة : 36